تخيم بين اونة واخرى مديونيات البلدان المدينة بظلالها على النظام الاقتصادي الدولي. ففي بعض مراحلها توشك هذه المديونيات ان تحدث خللاً مؤثراً في النظام المالي العالمي لولا تضافر مجموعة عوامل تؤدي الى التخفيف من حدة آثارها، منها الابتكارات التي تشهدها الاسواق المالية بهدف استيعاب نتائج هذه المديونيات، كما ان السلطات الرقابية والنقدية في اغلب بلدان العالم لعبت دوراً مهما في حماية وصيانة النظام المصرفي من تأثيرات ازمة هذه المديونيات وآثارها السلبية المتوقعة.
لقد وجدت بعض البلدان المدينة في الاقتراض من البنوك العالمية اسلوبا ملائماً للتغلب على ما يواجهها من صعوبات مالية وشجعت للاسف البنوك العالمية بقوة عمليات الاقتراض، وقد كانت القيمة المقدرة للموارد الاولية لهذه البلدان من العوامل الرئيسية التي في ضوئها كانت تقرر البنوك المقرضة جدوى هذه القروض.
لقد شهدت السنوات الاخيرة تطورات غير مواتية بالنسبة لهذه المديونيات منها تطورات محلية للبلدان المدينة مثل تراجع اسعار موادها الاولية، وعدم قدرة الادارة الاقتصادية في بعض هذه البلدان على مواجهة تلك التطورات بالاضافة الى بعض العوامل الدولية، مثل تذبذب مستويات اسعار الفائدة والصرف.
ان مشكلة الديون في اساسها جاءت نتيجة للتوسع الكبير في الائتمان المقدم من البنوك العالمية. وكما هو معلوم فان هذه البنوك –وهي الجهة المقرضة لحوالي 70% من مجموع ديون البلدان المدينة- اصبحت حذرة منذ حوالي سنوات قريبة في تقديم اموال جديدة الى هذه البلدان مما يجعل حجم الاموال التي يتم سدادها من الديون يفوق حجم الاقراض الجديد وبالتالي برزت ثغرات تحويلية للبلدان المدينة.
ان تحقيق استقرار في النمو الاقتصادي للبلدان المدينة يتطلب توفير موارد يتوجب تقديمها من قبل البلدان الصناعية الى مجموعة هذه البلدان. كما انه بامكان البلدان المدينة ومن الناحية النظرية ان تتصدى لهذا المأزق من خلال عملية خروج تدريجية من هذه المديونية وذلك اذا ما استطاعت هذه البلدان ان تحقق نموا اقتصادياً مستمراً. ويعتبر هذا التوجه الاساس الذي قامت عليه عدة مبادرات كان جوهرها ينصب على ايجاد عملية تصحيح هيكلية وتعديل للسياسات التي من شأنها تدعيم معدلات نمو مستمرة في هذه البلدان.
وذلك استناداً الى عدة عوامل اهمها: ما يتعلق باسعار المواد الاولية، وتوسع التجارة الدولية، وتحقيق مستويات مناسبة لاسعار الفائدة واسعار الصرف.
ويأتي المنطلق الاساس لهذه المبادرات الاستراتيجية للحد من الاثار المعاكسة التي اثرت على مديونيات البلدان المدينية نتيجة للتراجع الملحوظ الذي شهدته اسعار المواد الاولية خلال السنوات الاخيرة وظهور بعض العوائق التجارية امام صادرات البلدان المدينة، وكذلك الاثار المعاكسة لتغيرات اسعار الصرف على صادرات هذه البلدان ومستويات الطلب عليها. اضافة الى ما نتج عن اتباع البلدان الصناعية
لسياسات نقدية متشددة من ارتفاع ملموس في معدلات اسعار الفائدة واثر ذلك على ارتفاع حجم خدمة الدين.
واذا كان الهدف الرئيس لاستراتيجية معالجة الديون العالمية والمتمثل في زيادة معدلات النمو في البلدان المدينة لم يتحقق الا انه لوحظ في الوقت ذاته تراجع حدة المخاوف التي برزت حول الآثار السلبية لمشكلة المديونية على النظام المالي العالمي.
ان التقديرات الاحصائية المصرفية تشير الى ان الحجم الكلي لهذه الديون سوف يزداد خلال السنوات القليلة القادمة، اي ان المشكلة تظل قائمة ممثلة عبئاً ثقيلاً على عدد كبير من البلدان المدينة كما تظل بالتالي مصدراً لهزات محتملة قد يشهدها النظام المصرفي العالمي في المستقبل.
لقد عملت بعض الاسواق المالية على تخفيف اثر حدة بعض المديونيات على البنوك العالمية وذلك عن طريق ابتكار ادوات جديدة لتحويل هذه الديون الى انواع اخرى من الاصول. كذلك كثفت اغلب السلطات الرقابية المالية في عدد من الدول جهودها لدعم الانظمة المصرفية وحمايتها من اثار ازمة هذه المديونيات من خلال تطوير متطلبات راس المال للبنوك وعلاقتها بالاصول موزونة بدرجة المخاطرة وكذلك من خلال زيادة المخصصات المطلوبة من البنوك مقابل القروض. وقد اختلفت هذه المعايير والمتطلبات من بلد لآخر.
وعليه فقد قفلت البنوك من حدة مخاطر المديونيات التي كانت تهدد النظام المصرفي العالمي بمواجهتها للمشكلة في وقت مبكر من خلال اجراء تعديلات في هيكل استخداماتها، اضافة الى قيام معظم البنوك بتقوية قاعدتها الرأسمالية وتحسين نوعية اصولها مما ساعدها على بناء مخصصات ترتب عليها تخفيض القيمة النقدية لحجم ديونها تجاه تلك البلدان.
وان كانت هذه البنوك قد ترددت في اجراء عمليات شطب لجزء من ديونها الا انها لجأت الى اسلوب توريق هذه الديون، اي تحويلها الى ادوات مالية للتداول في اسواق ثانوية باسعار مخصومة. وقد طبقت هذه الاجراءات باساليب فنية مبتكرة تضمنت تحديد قيمة الاوراق المالية الناتجة عن تحويل هذه الديون على اساس واقعي وبما يعكس اسعار السوق، كما ان هناك جزءاً من المديونيات تم تحويلها الى استثمارات مباشرة في البلدان المدينة.
ومن الواضح ان تطور وزيادة كفاءة الاسواق المالية العالمية قد ساهم في تشجيع عمليات التحويل هذه وفي تطوير البدائل المتاحة لتحويل الديون وتخفيض احجامها.
وقد نجحت الاسواق المالية في تطوير عدة اساليب رئيسية استخدمت في معالجة الديون وفوائدها وتحويلها الى انواع اخرى من الاصول ومن ذلك:
1- مقايضة الديون بحقوق ملكية – وهو اسلوب يتيح للمستثمر الاجنبي ان يستثمر في البلدان المدينة. وتبدأ الخطوة عن طريق شراء سندات مقومة بالعملة الاجنبية صادرة عن البلد المدين وباسعار الحقوق.
وكخطوة تالية يقوم البنك المركزي في البلد المدين بشراء هذه السندات من المستثمر الاجنبي مقابل الدفع بالعملة المحلية ثم يقوم المستثمر بدوره باستخدام العملة المحلية هذه بالاستثمار المباشر في شركات ومشاريع محلية، كما انه بالامكان ايضاً تحويل ديون الشركات المحلية المقومة بالعملة الاجنبية الى حقوق ملكية بالعملة المحلية في هذه الشركات.
ومن مزايا اسلوب المقايضة، انه يساهم في دفع عملية النمو الاقتصادي في البلدان المدينة عن طريق فتح المجال لامكانية تشجيع الالتزامات المقومة بالعملة الاجنبية للبلدان المدينة.
2- توريق الدين –اي تحويل الدين الى ورقة مالية للتداول، وبذلك تسمح هذه العملية للبنك الدائن ان يتخلص من تلك القروض باسعار تقل بكثير عن القيمة الاسمية.
3- اعادة شراء الديون –ويتيح هذا الاسلوب للبلدان المدينة ان تشتري ديونها من البنوك التجارية وباسعار السوق والتي تكون عادة بسعر ادنى من القيمة الاسمية.
لقد قامت البنوك بتقوية اموالها الخاصة ورفعت مستويات مخصصاتها مقابل الديون المتعثرة. فقد حققت البنوك العالمية تقدما في مواجهة المشاكل الناجمة عن عدم قدرة بعض البلدان على خدمة وسداد ديونها.
وقد قطعت البنوك شوطا كبيراً في هذا المجال وبمساندة من السلطات الرقابية في بلدانها وذلك عن طريق اسلوبين استخدمتهما هذه البنوك هما:
* قيام عدد كبير من البنوك ببناء جزء كبير من المخصصات مقابل مخاطر تلك الديون. وتختلف نسب ونوعية هذه المخصصات حسب السياسات الرقابية والضرائبية للبلدان المعنية.
* زيادة الاموال الخاصة للبنوك عن طريق الاحتياطات واصدارات الاسهم والادوات الرأسمالية الاخرى.
لم تحظ مشكلة الديون الرسمية باهتمام كاف في السابق ولا شك انه في ضوء تركيز هذه الديون للجهات الرسمية في البلدان الاكثر فقراً فانه من الواضح ان الامر يتطلب تدخلاً قويا من الجهات الرسمية في المجتمع العالمي لتحريك الوضع وخلق قوة دفع نحو ايجاد حل لمعاناة البلدان المعنية.
ان من شأن تخفيض المديونية ان يفسح المجال للبلدان المدينة للتركيز على عملية التصحيح الاقتصادي ويرفع عنها عبء الديون المتراكمة.
وبالنسبة للجهات الدائنة فان من شأن تخفيض الديون والاساليب المستخدمة في ذلك ان تقلل من المخاطر المتعلقة بمستحقاتها على الدول المدينة وتضمن تدفق المدفوعات. ومن هنا تبرز اهمية التزام البلدان المعنية باتباع سياسات اقتصادية جادة وذلك لضمان تحقيق معدلات النمو المرجوة التي لم يتم حل مشكلة الديون بدونها.
وقد بدأت البلدان الدائنة الرئيسية في مواجهة الواقع خلال السنوات القليلة الماضية. ويبدو انها ادركت ان هناك حاجة الى تعديل استراتيجية معالجة المديونيات بحيث تأخذ بالاعتبار امكانية ومناسبة تخفيض حجم الديون او الفائدة عليها في بعض الحالات.
وبرزت بعض ملامح هذا التحول في مواقف هذه البلدان اثناء الاجتماعات السنوات لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتأكيد هذا التوجه الجديد نحو الواقعية في معالجة الديون واعادة هيكلية جدولتها لغرض تخفيض الفائدة عليها.
لا شك ان هناك ظروفاً معينة تؤدي الى تخفيض وطأة المشكلة بالنسبة للبلدان المدينة الرئيسية وذلك من خلال توافر المناخ العالمي الملائم واجراء اصلاحات اقتصادية هيكلية واللجوء الى مختلف اساليب السوق المتاحة لتخفيض المديونية. ويجب ان يكون ذلك مصحوباً بتصميم وعزم سياسي من جانب جميع الاطراف ومصحوباً بالنمو المناسب في صادرات البلدان المدينة حيث ان من شأن ذلك ان يحول بعض البلدان المدينة الكبرى الى نماذج للتنمية السليمة.
مقالات اخرى للكاتب